لماذا هذا الكتاب
لأن الإبستمولوجيا قد جاءت الدنيا وشغلت الناس، فلا تكاد تجد أهل تخصص إلا ويستعملون هذا المصطلح أحيانًا قليلة على حق وأحيانًا كثيرة على غير حق، وبغير فهم، بحكم الجاذبية التي تصاحب هذا المصطلح في السنين الأخيرة، إنْ لم نقل في خلال القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين؛ لذلك، كان التفكير في وضع هذا الضروري من هذا التخصص أمام طلبة العلم والأساتذة والباحثين، ضرورة تاريخية علمية شرعية. وقوفًا على ثغرٍ عزَّ فيه الواقفون.
والحق أنَّ كلَّ من يقبل على دراسة باب من المعرفة البشرية لا بد أن يفهم أولًا تعريفه، ويطلع على مسائله التي عليها مداره، ومناهج النظر في تلك المسائل، والنظريات التي اكتشفها أصحابه فيه، والمفاهيم المفاتيح التي بها يفهم المستغلق من موضوعاته ومنهجياته ونظرياته. ثم يفهم ثانيًا كيفية تأسيسه، وأحقاب تطوره، وموقعه بين أصناف المعارف الإنسانية، وما يمكن أن يكون قد صاحب تطوراته من مشكلات، أو تخلل أبنيته المعرفية من أغلاط واختلالات.
فكيف نحصل الضروري في كل هذا في حقل مجهول بين أكثر الناس، زهدا منهم في تعلمه، أو زهدا من أصحابه في تعليمه، أو لوقوعه بين إمبراطوريتين شاسعتين تتجاذبان السيطرة عليه: واحدة هي أكثر الإمبراطوريات الفكرية إثارة للسجال أو الخوف أو النفور: أعني إمبراطورية الفلسفة، والثانية إمبراطورية ظلت حكرا على نوابغ المتمدرسين، ونخب المتعلمين، في عالم عربي يطردهم خارج الحدود أو يستهلكهم في سوق الشغل المتوحش، وأعني بها إمبراطورية العلوم الدقيقة من رياضيات وفيزياء وفلك وطب...؟
إن الاطلاع على العوالم التي تملؤها هذه الإمبراطورية، بالكثافة التي يقتضيها اقتناص الضروري من كل علم، قد اقتضى منا الدوران على أهم المدارات التي تتحرك فيه أجزاؤه، والتي تفتح أمام الناظر مساحة رصد أوسع وأدق وأفضل. فيرجع مما رآه بحصاد معرفي نافع للمقتصد ولا غنى عنه للمجتهد.